بسم الله الرحمن الرحيم
الركن الأول في نفس التوبة بيان حقيقة التوبة وحدها اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتثم من ثلاثة أمور مرتبة علم وحال وفعل فالعلم الأول والحال الثانى والفعل الثالث والأول موجب للثانى والثانى موجب للثالث إيجابا اقتضاه إطراد سنة الله فى الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجابا بين العبد وبين كل محبوب فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال والماضى وبالاستقبال أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذى كان ملابسا وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضى فبتلافى ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعنى بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان فى ظلمة فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافى للماضى ثلاثة معان مرتبة في الحصول فيطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا الاعتبار قال صلى الله عليه وسلم الندم توبة <حديث الندم توبة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين> إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ويتلوه فيكون الندم محفوفا بطرفيه فيه أعنى ثمرته ومثمره وبهذا الاعتبار قيل فى حد التوبة إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل هو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة إنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء وقال سهل ابن عبد الله التسترى التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال وكأنه أشار إلى المعنى الثالث من التوبة والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر وإذا فهمت هذه المعانى الثلاثة وتلازمها وترتيبها عرفت أن جميع ما قيل فى حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها وطلب العلم بحقائق الأمور أهم من طلب الألفاظ المجردة.