بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الخامس
البصر ويحفظ الفرج.
فأما حفظ القلب عن الوسواس والفكر فلا يدخل تحت اختياره بل لا تزال النفس تجاذبه وتحدثه بأمور الوقاع ولا يفتر عنه الشيطان الموسوس إليه في أكثر الأوقات وقد يعرض له ذلك في أثناء الصلاة حتى يجري على خاطره من أمور الوقاع ما لو صرح به بين يدي أخس الخلق لاستحي منه والله مطلع على قلبه والقلب في حق الله كاللسان في حق الخلق ورأس الأمور للمريد في سلوك طريق الآخرة قلبه والمواظبة على الصوم لا تقطع مادة الوسوسة في حق أكثر الخلق إلا أن ينضاف إليه ضعف في البدن وفساد في المزاج ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما (لا يتم نسك الناسك إلا بالنكاح) وهذه محنة عامة قل من يتخلص منها.
قال قتادة في معنى قوله تعالى (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) هو الغلمة وعن عكرمة ومجاهد أنهما قالا في معنى قوله تعالى (وخلق الإنسان ضعيفا) أنه لا يصبر عن النساء وقال فياض بن نجيح (إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله) وبعضهم يقول (ذهب ثلث دينه) وفي نوادر التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما (ومن شر غاسق إذا وقب) قال (قيام الذكر) وهذه يلية غالبة إذا هاجت لا يقاومها عقل ولا دين.
وهي مع أنها صالحة لأن تكون باعثة على الحياتين كما سبق فهي أقوى آلة الشيطان على بني آدم وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب منكن.) وإنما ذلك لهيجان الشهوة.
وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وشر مني) وقال (أسألك أن تطهر قلبي وتحفظ فرجي.) فما يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجوز التساهل فيه لغيره.
وكان بعض الصالحين يكثر النكاح حتى لا يكاد يخلو من اثنتين وثلاث فأنكر عليه بعض الصوفية فقال (هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي الله تعالى جلسة أو وقف بين يديه موقفا في معاملة فخطر على قلبه خاطر شهوة) فقالوا (يصيبنا من ذلك كثير) فقال (لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت واحد لما تزوجت لكني ما خطر على قلبي خاطر يشغلني عن حالي إلا نفذته فأستريح وأرجع إلى شغلي ومنذ أربعين سنة ما خطر على قلبي معصية).
وأنكر بعض الناس حال الصوفية فقال له بعض ذوي الدين (ما الذي تنكر منهم) قال (يأكلون كثيرا) قال (وأنت أيضا لو جعت كما يجوعون لأكلت كما يأكلون) قال (ينكحون كثيرا) قال (وأنت أيضا لو حفظت عينيك وفرجك كما يحفظون لنكحت كما ينكحون).
وكان الجنيد يقول (أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت) فالزوجة على التحقيق قوت وسبب لطهارة القلب.
ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من وقع نظره على امرأة فتاقت إليها نفسه أن يجامع أهله، لأن ذلك يدفع الوسواس عن النفس.
وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فدخل على زينب فقضى حاجته وخرج وقال صلى الله عليه وسلم (إن المرأة إذا أقبلت أقبلت بصورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله معها مثل الذي معها.) وقال عليه السلام (لا تدخلوا على المغيبات وهي التي غاب زوجها عنها فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) قلنا (ومنك) قال (ومني ولكن الله أعانني عليه فاسلم) قال سفيان بن عيينة (فاسلم معناه فاسلم أنا منه) هذا معناه فان الشيطان لا يسلم وكذلك حكى علي ابن عمر رضي الله عنهما وكان من زهاد الصحابة وعلمائهم انه كان يفطر من الصوم على الجماع قبل الأكل وربما انه جامع ثلاثا من جواريه في شهر رمضان قبل العشاء الأخير.
وقال ابن عباس (خير هذه الأمة أكثرها نساء) ولما كانت الشهوة أغلب على مزاج العرب كان استكثار الصالحين منهم لنكاح أشد ولأجل فراغ القلب أبيح نكاح الأمة عند خوف العنت مع أن فيه إرقاق الولد وهو نوع اهلاك وهو محرم على كل من قدر على حرة ولكن إرقاق الولد أهون من إهلاك الدين وليس فيه إلا تنغيص الحياة على الولد مدة وفي اقتحام الفاحشة تفويت الحياة الاخروية التي تستحقر الأعمار الطويلة بالإضافة إلى يوم من أيامها.
وروي أنه انصرف الناس ذات يوم من مجلس ابن عباس وبقي شاب لم يبرح فقال له ابن عباس هل لك من حاجة قال نعم أردت أن اسأل مسألة فاستحييت من الناس وأنا الآن أهابك وأجلك فقال ابن عباس إن العالم بمنزلة الوالد فما كنت أفضيت به إلى أبيك فأفض إلي به فقال أني شاب لا زوجة لي وربما خشيت العنت على نفسي فربما استمنيت بيدي فهل في ذلك معصية فأعرض عنه ابن عباس ثم قال أف وتف نكاح الأمة خير منه وهو خير من الزنا) فهذا تنبيه على أن العزب المغتلم مردد بين ثلاثة شرور أدناها نكاح الأمة وفيه إرقاق الولد وأشد منه الاستمناء باليد وأفحشه الزنا.
ولم يطلق ابن عباس الإباحة في شيء منه لأنهما محذوران يفزع إليهما حذرا من الوقوع في محذور أشد منه كما يفزع إلى تناول الميتة حذرا من هلاك النفس فليس ترجيح اهون الشرين في معنى الإباحة المطلقة ولا في معنى الخير المطلق وليس قطع اليد المتأكلة من الخيرات وإن كان يؤذن فيه عند إشراف النفس على الهلاك. فإذا في النكاح فضل من هذا الوجه ولكن هذا لا يعم الكل بل الأكثر فرب شخص فترت شهوته لكبر سن أو مرض أو غيره فينعدم هذا الباعث في حقه ويبقى ما سبق من أمر الولد فإن ذلك عام إلا للممسوح وهو نادر ومن الطباع ما تغلب عليها الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة فيستحب لصاحبها الزيادة على الواحدة إلى الأربع فإن يسر الله له مودة ورحمة واطمأن قلبه بهن وإلا فيستحب له الاستبدال.