بسم الله الرحمن الرحيم
فاما اصغر الصغائر فلاسبيل الي معرفته وبيانه انا نعلم شواهد الشرع وانوار البصائر جميعا ان مقصود الشرائع
كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله وإليه الإشارة بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيد لى ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربه بالربوبية ونفسه بالعبودية ولا بد أن يعرف نفسه وربه فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام الدنيا مزرعة الآخرة حديث الدنيا مزرعة الآخرة لم أجده بهذا اللفظ مرفوعا وروى العقيلي في الضعفاء وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته الحديث وإسناده ضعيف فصار حفظ الدنيا أيضا مقصودا تابعا للدين لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان النفوس والأموال فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسد باب حياة النفوس ويليه باب ما يسد المعايش التى بها حياة الناس فهذه ثلاث مراتب فحفظ المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر فلا كبيرة فوق الكفر إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربة بقدر معرفته وبعده بقدر جهله ويتلو الجهل الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضا عين الجهل فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا ولا أن يكون آيسا ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ومراتب ذلك لاتنحصر وهى تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضى إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التى لا ينتظم العيش إلا بها بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في أصل شرع قصد به الإصلاح وينبغى أن يكون الزنا فى الرتبة دون القتل لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضى إلى التقاتل وينبغى أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما بل ينبغى أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغى أن يكون ذلك من الكبائر وذلك بأربع طرق أحدها الخفية وهى السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك الثانى أكل مال اليتيم وهذا أيضا من الخفية وأعنى به في حق الولى والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه الثالث تفويتها بشهادة الزور الرابع أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضى مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع في مثله وإذا لم يجعل الغضب الذى هو أكل مال الغير بغيره رضاه وبغير رضا الشرع من الكبائر فأكل الربا أكل برضا المالك ولكن دون رضا الشرع وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى انه غير داخل تحت الكبائر بل ينبغى أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضروريا في الدين فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار من الزحف وحقوق الوالدين أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضا لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة بل لا خير في النفس دون العقل فإزالة العقل من الكبائر ولكن هذا لا يجرى في قطرة من الخمر فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو شرب ماء نجس والقطرة وحدها في محل الشك وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره فيعد ذلك من الكبائر بالشرع وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ولا فللتوقف فيه مجال وأما القذف فليس فيه إلا تناول الأعراض والأعراض دون الأموال في الريبة ولتناولها مراتب وأعظمها التناول بالقذف بالإضافة إلى فاحشة الزنا وقد عظم الشرع أمره وأظن ظنا غالبا أن الصحابة كانوا يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس وهو الذي نريده بالكبيرة الآن ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس بمجرده لا يدل على كبره وعظمته بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى إنسانا يزنى فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته فإن لم تقبل شهادته فحده ليس ضروريا في مصالح الدنيا وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في رتبة الحاجات فإذن هذا أيضا يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع فأما من ظن أن له أن يشهد وحده أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغى أن يجعل في حقه من الكبائر وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه من هلاك نفس أو مرض أو غيره وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين فهذا أيضا ينبغى أن يكون من حيث القياس في محل التوقف وإذا قطع بأن سب الناس بكل شىء سوى الزنا وضربهم والظلم لهم بغصب اموالهم وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم وإجلائهم من أوطانهم ليس من الكبائر إذ لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه فالتوقف في هذا أيضا غير بعيد ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليحلق بالكبائر فإذا رجع حاصل الأمر إلى أنا نعنى بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع وذلك مما انقسم إلى ما علم أنه لا تكفره قطعا وإلى ما ينبغى أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه والمتوقف فيه بعضه مظنون للنفى والإثبات وبعضه مشكوك فيه وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة وإذن لا مطمع فيه فطلب رفع الشك فيه محال فإن قلت فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حده فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام لأن دار التكليف هى دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها كبيرة بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتمادا على الصلوات الخمس وكذلك اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا وكل من يشتهى الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التى هى مقدماته كسماع الملاهى والأوتار نعم من يشتهى الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التى ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ولم يرد النص بعد ولا حد جامع بل ورد بألفاظ مختلفات فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم الله الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة حديث الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة الحديث أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة نحوه وقال صحيح الإسناد قيل ما ترك السنة قيل الخروج عن الجماعة ونكث الصفقة أن يبايع رجلا ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهما فإن قلت الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر والورع عن الصغائر ليس شرطا في قبول الشهادة وهذا من أحكام الدنيا فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر فلا خلاف في أن من يسمع الملاهى ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أوانى الذهب والفضة لا تقبل شهادته ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر وقال الشافعى رضي الله عنه إذا شرب الحنفى النبيذ حددته ولم أرد شهادته فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة فدل على أن الشهادة نفيا وإثباتا لا تدور على الصغائر والكبائر بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالبا بضرورة مجارى العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب فى بعض الأقوال وسماع الغيبة وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائدا على المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة ومصادقة الفجار والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقى على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات وليس لبس الحرير وسماع الملاهى واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل فإلى مثل هذا المنهاج ينبغى أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة ثم آحاد هذه الصغائر التى لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم والصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر