بيان جنود القلب
قال الله تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو فلله سبحانه في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم جنود مجندة لا يعرف حقيقتها وتفصيل عددها إلا هو ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب فهو الذي يتعلق بغرضنا وله جندان جند يرى بالأبصار وجند لا يرى إلا بالبصائر وهو في حكم الملك والجنود في حكم الخدم والأعوان فهذا معنى الجند فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة فإن جميعها خادمة للقلب ومسخرة له فهو المتصرف فيها والمردد لها وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم وكذا سائر الأعضاء وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة لله تعالى فإنهم مجبولون على الطاعة لا يستطيعون له خلافا بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وإنما يفترقان في شيء وهو أن الملائكة عليهم السلام عالمة بطاعتها وامتثالها والأجفان تطيع القلب في الانفتاح والانطباق على سبيل التسخير ولا خبر لها من نفسها ومن طاعتها للقلب وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره الذي لأجله خلق وهو السفر إلى الله سبحانه وقطع المنازل إلى لقائه فلأجله خلقت القلوب قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وإنما مركبه البدن وزاده العلم وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح وليس يمكن العبد أن يصل إلى الله سبحانه ما لم يسكن البدن ولم يجاوز الدنيا فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى فالدنيا مزرعة الآخرة وهي منزل من منازل الهدى وإنما سميت دنيا لأنها أدنى المنزلتين فاضطر إلى أن يتزود من هذا العالم فالبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم فافتقر إلى تعهد البدن وحفظه وإنما يحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره وأن يدفع عنه ما ينافيه من أسباب الهلاك فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين باطن وهو الشهوة وظاهر وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين باطن وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء وظاهر وهو اليد والرجل للذين بهما يعمل بمقتضى الغضب وكل ذلك بأمور خارجة فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه فافتقر للمعرفة إلى جندين باطن وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق وظاهر وهو العين والأذن والأنف وغيرها وتفصيل وجه الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة وقد أشرنا إلى طرف يسير منها في كتاب الشكر فليقتنع به فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف صنف باعث ومستحث إما إلى جلب النافع الموافق كالشهوة وإما إلى دفع الضار المنافي كالغضب وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة والثاني هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويعبر عن هذا الثاني بالقدرة وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار والثالث هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع وقوة البصر إنما هي بالعين وكذا سائر القوى ولسنا نتكلم في الجنود الظاهرة أعني الأعضاء فإنها من عالم الملك والشهادة وإنما نتكلم الآن فيما أيدت به من جنود لم تروها وهذا الصنف الثالث وهو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما قد أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس أعني السمع والبصر والشم والذوق واللمس وإلى ما أسكن منازل باطنة وهي تجاويف الدماغ وهي أيضا خمسة فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ ثم يتفكر فيما حفظه فيركب بعض ذلك إلى البعض ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ ولولا خلق الله قوة الحفظ والفكر والذكر والتخيل لكان الدماغ يخلو عنه كما تخلو اليد والرجل عنه فتلك القوى أيضا جنود باطنة وأماكنها أيضا باطنة فهذه هي أقسام جنود القلب وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء بضرب الأمثلة يطول ومقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء ولكنا نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم.