بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته
اعلم أن الإنسان قد اصطحب في خلقته وتركيبه أربع شوائب فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي الصفات السبعية والبهيمية والشيطانية والربانية فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم ومن حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشره والحرص والشبق وغيره ومن حيث إنه في نفسه أمر رباني كما قال الله تعالى قل الروح من أمر ربي فإنه يدعي لنفسه الربوبية ويحب الاستيلاء والاستعلاء والتخصص والاستبداد بالأمور كلها والتفرد بالرياسة والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها بل يدعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور ويفرح إذا نسب إلى العلم ويحزن إذا نسب إلى الجهل والإحاطة بجميع الحقائق والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية وفي الإنسان حرص على ذلك ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز مع مشاركته لها في الغضب والشهوة حصلت فيه شيطانية فصار شريرا يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع ويظهر الشر في معرض الخير وهذه أخلاق الشياطين وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية وكل ذلك مجموع في القلب فكأن المجموع في إهاب الإنسان خنزير وكلب وشيطان وحكيم فالخنزير هو الشهوة فإنه لم يكن الخنزير مذموما للونه وشكله وصورته بل لجشعه وكلبه وحرصه والكلب هو الغضب فإن السبع الضاري والكلب العقور ليس كلبا وسبعا باعتبار الصورة واللون والشكل بل روح معنى السبعية الضراوة والعدوان والعقر وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه وحرص الخنزير وشبقه فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر والسبع بالغضب إلى الظلم والإيذاء والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويحسن لهما ما هما مجبولان عليه والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق الواضح وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه إذ بالغضب يكسر سورة الشهوة ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه ويجعل الكلب مقهورا تحت سياسته فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم وإن عجز عن قهرها وقهروه واستخدموه فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويرضى الكلب فيكون دائما في عبادة كلب وخنزير وهذا حال أكثر الناس مهما كان أكثر همتهم البطن والفرج ومنافسة الأعداء والعجب منه أنه ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة ولو كشف الغطاء عنه وكوشف بحقيقة حاله ومثل له حقيقة حاله كما يمثل للمكاشفين إما في النوم أو في اليقظة لرأى نفسه ماثلا بين يدي خنزير ساجدا له مرة وراكعا أخرى ومنتظرا لإشارته وأمره فمهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهواته انبعث على الفور في خدمته وإحضار شهوته أو رأى نفسه ماثلا بين يدي كلب عقور عابدا له مطيعا سامعا لما يقتضيه ويلتمسه مدققا بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته وهو بذلك ساع في مسرة شيطانه فإنه الذي يهيج الخنزير ويثير الكلب ويبعثهما على استخدامه فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعبادتهما فليراقب كل عبد حركاته وسكناته وسكوته ونطقه وقيامه وقعوده ولينظر بعين البصيرة فلا يرى إن أنصف نفسه إلا ساعيا طول النهار في عبادة هؤلاء وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكا والرب مربوبا والسيد عبدا والقاهر مقهروا إذ العقل هو المستحق للسيادة والقهر والاستيلاء وقد سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طابعا ورينا مهلكا للقلب ومميتا له أما طاعة خنزير الشهوة فتصدر منها صفة الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والحقد والشماتة وغيرها وأما طاعة كلب الغضب فتنتشر منها إلى القلب صفة التهور والبذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعجب والاستهزاء والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفة المكر والخداع والحيلة والدهاء والجراءة والتلبيس والتضريب والغش والخب والخنا وأمثالها ولو عكس الأمر وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية لاستقر في القلب من الصفات الربانية العلم والحكمة واليقين والإحاطة بحقائق الأشياء ومعرفة الأمور على ما هي عليه والاستيلاء على الكل بقوة العلم والبصيرة واستحقاق التقدم على الخلق لكمال العلم وجلاله ولاستغنى عن عبادة الشهوة والغضب ولانتشر إليه من ضبط خنزير الشهوة ورده إلى حد الاعتدال صفات شريفة مثل العفة والقناعة والهدو والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرف والمساعدة وأمثالها ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفة الشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار وغيرها فالقلب في حكم مرآة قد اكتنفته هذه الأمور المؤثرة فيه وهذه الآثار على التواصل واصلة إلى القلب أما الآثار المحمودة التي ذكرناها فإنها تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقا ونورا وضياء حتى يتلألأ فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب في الدين وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه حديث إذا أراد الله بعبده خيرا جعل له واعظا من قلبه أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أم سلمة وإسناده جيد وبقوله صلى الله عليه وسلم من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ حديث من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ لم أجد له أصلا وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوبا عن الله تعالى وهو الطبع وهو الرين قال الله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال عز وجل أن لو نشاء أصبناهم بذنبوهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون فربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى واتقوا الله واسمعوا واتقوا الله ويعلمكم الله ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويصير مقصور الهم عليها فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك أولئك يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة قال ميمون بن مهران إذا أذنب العبد ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع وتاب صقل وإن عاد زيد فيها حتى يعلو قلبه فهو الران وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر وقلب الكافر أسود منكوس حديث قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر الحديث أخرجه أحمد والطبراني في الصغير من حديث أبي سعيد وهو بعض الحديث الذي يليه فطاعة الله سبحانه بمخالفة الشهوات مصقلة للقلب ومعاصيه مسودات له فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه ومن أتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه ولكن ينقص نوره كالمرآة التي يتنفس فيها ثم تمسح ويتنفس ثم تتمسح فإنها لا تخلو عن كدورة وقد قال صلى الله عليه وسلم القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق حديث القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر الحديث أخرجه أحمد والطبراني في الصغير من حديث أبي سعيد الخدري وقد تقدم فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها وفي رواية ذهبت به قال الله تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا فالتقوى باب الذكر والذكر باب الكشف والكشف باب الفوز الأكبر وهو الفوز بلقاء الله تعالى.