بسم الله الرحمن الرحيم
العبارة بقوله تعالى: (إنا كل شىء خلقناه بقدر) وعن القضاء الكلى الأزلى العبارة بقوله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وأما العباد فإنهم مسخرون تحت مجارى القضاء والقدر ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة وبعد خلق ميل قوي جازم في نفسه يسمى القصد وبعد علم بما إليه ميله يسمى الإدراك والمعرفة فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن عالم الغيب والملكوت وقالوا يا أيها الرجل قد تحركت ورميت وكتبت ونودى من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وما قتلت إذ قتلت ولكن قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة فمن قائل إنه جبر محض ومن قائل إنه اختراع صرف ومن متوسط مائل إلى أنه كسب ولو فتح لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت لظهر لهم أن كل واحد صادق من وجه وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر ولم يحط علمه بجوانبه وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وقد يطلع على الشهادة من لم يدخل في حيز الارتضاء ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات وعلم كيفية تسلسلها ووجه ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علما يقينا أن لا خالق إلا الله ولا مبدع سواه فإن قلت قد قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب أنه صادق من وجه وهو مع صدقه قاصر وهذا تناقض فكيف يمكن فهم ذلك وهل يمكن إيصال ذلك إلى الأفهام بمثال فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه فطلبوه فلما وصلوا إليه لمسوه فوقع يد بعض العميان على رجليه ووقع يد بعضهم على نابه ووقع يد بعضهم على أذنه فقالوا قد عرفنا انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم فقال الذي لمس الرجل إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها وقال الذي لمس الناب ليس كما يقول بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه وليس في غلظ الأسطوانة أصلا بل هو مثل عمود وقال الذي لمس الأذن لعمري هو لين وفيه خشونة فصدق أحدهما فيه ولكن قال ما هو مثل عمود ولا هو مثل اسطوانة وإنما هو مثل جلد عريض غليظ فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل ولكنهم بحملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل فاستبصر بهذا المثال واعتبر به فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه وإن كان هذا كلاما يناطح علوم المكاشفة ويحرك أمواجها وليس ذلك من غرضنا فلنرجع إلى ما كنا بصدده وهو بيان أن التوبة واجبة بجميع أجزائها الثلاثة العلم والندم والترك وأن الندم داخل في الوجوب لكونه واقعا في جملة أفعال الله المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينها وما هذا وصفه فاسم الوجوب يشمله بيان أن وجوب التوبة على الفور أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه إذ معرفة كون المعاصى مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور المتقصى عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل المكروه فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التى لا تتعلق بعمل بل هى من علوم المعاملة وكل علم يراد ليكون باعثا على عمل فلا يقع التقصى عن عهدته ما لم يصر باعثا عليه فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثا لتركها فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن حديث لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن متفق عليه من حديث أبي هريرة وما أراد به نفى الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة كالعلم بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله فإن ذلك لا ينفيه الزنا والمعاصى وإنما أراد به نفى الإيمان لكون الزنا مبعدا عن الله تعالى موجبا للمقت كما إذا قال الطبيب هذا سم فلا تتناوله فإذا تناوله يقال تناول وهو غير مؤمن لا بمعنى أنه غير مؤمن بوجود الطبيب وكونه طبيبا وغير مصدق به بل المراد أنه غير مصدق بقوله إنه سم مهلك فإن العالم بالسم لا يتناوله أصلا فالعاصى بالضرورة ناقص الإيمان وليس الإيمان بابا واحدا بل هو نيف وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ومثاله قول القائل ليس الإنسان موجودا واحدا بل هو نيف وسبعون موجودا أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن البشرة بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأضافر نقى البشرة عن الخبث حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأرواثها المستكرهة الصور بطول مخالبها وأظلافها وهذا مثال مطابق فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد يوجد البطلان بالكلية كفقد الروح والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع الأطراف مفقوع العينين فاقد لجميع أعضائه الباطنة والظاهرة لا أصل الروح وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التى تخلف عنها الأعضاء التى تمدها وتقويها فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال قريب من أن تقتلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده فكل إيمان لم يثبت في اليقين أصله ولم تنتشر فى الأعمال فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة لا ما يسقى بالطاعات على توالى الأيام والساعات حتى رسخ وثبت وقول العاصى للمطيع إنى مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر أنا شجرة وأنت شجرة وما أحسن جواب شجرة الصنوبر إذ قالت ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف فعند ذلك تنقطع أصولك وتتناثر أوراقك وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبوت الأشجار سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وهذا أمر يظهر عند الخاتمة وإنما انقطع نياط العارفين خوفا من دواعى الموت ومقدماته الهائلة التى لا يثبت عليها إلا الأقلون فالعاصى إذا كان لا يخاف الخلود في النار بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة إذا كان لا يخاف الموت بسبب صحته وأن الموت غالبا لا يقع فجأة فيقال له الصحيح يخاف المرض ثم إذا مرض خاف الموت وكذلك العاصى يخاف سوء الخاتمة ثم إذا ختم له بالسوء والعياذ بالله وجب الخلود في النار فالعاصى للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فلا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة فكذلك المعاصى فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى الفور فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك وإذا كان متناول السم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة تلافيا لبدنه المشرف على هلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية فمتناول سموم الدين وهى الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام يبقى للتدارك مهلة وهو العمر فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التى فيها النعيم المقيم والملك العظيم وفى فواتها نار الجحيم والعذاب المقيم الذى تتصرم أضعاف أعمار الدنيا دون عشر عشير مدته إذ ليس لمدته آخر البتة فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملا يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم ولا ينفع بعده الاحتماء فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين وتحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين