بسم الله الرحمن الرحيم
ويدخل تحت عموم قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهى إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ولا يغرنك لفظ الإيمان فنقول المراد بالآية الكافر إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون بابا وأن الزانى لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن فالمحجوب عن الإيمان الذى هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذى هو أصل كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التى هى حروف وفروع سيساق إلى الموت المعدم للروح التى هى أصل فلا بقاء للأصل دون الفرع ولا وجود للفرع دون الأصل ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعا يستدعى وجود الأصل وأما وجود الأصل فلا يستدعى وجود الفرع فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل فلا يستغنى أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في رتبة التابع وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثه على العمل فعدمها خير من وجودها فإن هى لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم بيان أن وجوب التوبة عام في الأشخاص والأحوال فلا ينفك عنه أحد ألبتة اعلم أن ظاهر الكتاب قد دل على هذا إذ قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون فعمم الخطاب ونور البصيرة أيضا يرشد إليه إذ معنى التوبة الرجوع عن الطريق المبعد عن الله المقرب إلى الشيطان ولا يتصور ذلك إلا من عاقل ولا تكمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة التى هى وسائل الشيطان إلى إغواء الإنسان إذ كمال العقل إنما يكون عند مقاربة الأربعين وأصله إنما يتم عند مراهقة البلوغ ومباديه تظهر بعد سبع سنين والشهوات جنود الشيطان والعقول جنود الملائكة فإذا اجتمعا قام القتال بينهما بالضرورة إذ لا يثبت أحدهما للآخر لأنهما ضدان فالتطارد بينهما كالتطارد بين الليل والنهار والنور والظلمة ومهما غلب أحدهما أزعج الآخر بالضرورة وإذا كانت الشهوات تكمل في الصبا والشباب قبل كمال العقل فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان ووقع للقلب به أنس وإلف لا محالة مقتضيات الشهوات بالعادة وغلب ذلك عليه ويعسر عليه النزوع عنه ثم يلوح العقل الذي هو حزب الله وجنده ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئا فشيئا على التدريج فإن لم يقو ولم يكمل سلمت مملكة القلب للشيطان وأنجز اللعين موعده حيث قال لأحتنكن ذريته إلا قليلا وإن كمل العقل وقوى كان أول شغله قمع حنود الشيطان بكسر الشهوات ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات ولا معنى للتوبة إلا هذا وهو الرجوع عن طريق دليله الشهوة وخفيره الشيطان إلى طريق الله تعالى وليس في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله وغريزته التى هى عدة الشيطان متقدمة على غريزته التى هى عدة الملائكة فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضروريا في حق كل إنسان نبيا كان أو غبيا فلا تظنن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام وقد قيل فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها سجية نفس كل غانيةهند بل هو حكم أزلى مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية التى لا مطمع في تبديلها فإذن كل من بلغ كافرا جاهلا فعليه التوبة من جهله وكفره فإذا بلغ مسلما تبعا لأبويه غافلا عن حقيقة إسلامه فعليه التوبة من غفلته بتفهم معنى الإسلام فإنه لا يغنى عنه إسلام أبويه شيئا ما لم يسلم بنفسه فإن فهم ذلك فعليه الرجوع عن عادته وإلفه للاسترسال وراء الشهوات من غير صارف بالرجوع إلى قالب حدود الله فى المنع والإطلاق والانفكاك والاسترسال وهو من أشق أبواب التوبة وفيه هلك الأكثرون إذ عجزوا عنه وكل هذا رجوع وتوبة فدل على أن التوبة فرض عين في حق كل شخص يتصور أن يستغنى عنها أحد من البشر كما لم يستغن آدم فخلقه الولد لا تتسع لما لم يتسع له خلقة الوالد أصلا وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله وكل ذلك نقص وله أسباب وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده والمراد بالتوبة الرجوع ولا يتصور الخلو في حق الآدمى عن هذا النقص وإنما يتفاوتون في المقادير فأما الأصل فلا بد منه ولهذا قال عليه السلام إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة حديث أنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة أخرجه مسلم من حديث الأغر المزنى إلا أنه قال فى اليوم مائة مرة وكذا عند أبي داود وللبخاري من حديث أبي هريرة إنى لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة وفي رواية البيهقي في الشعب سبعين لم يقل أكثر وتقدم فى الأذكار والدعوات الحديث ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره فإن قلت لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص وأن الكمال في الخلو عنه وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص وأنه كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع والرجوع توبة ولكن هذه فضائل لا فرائض وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع فما المراد بقولك التوبة واجبة فى كل حال فاعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدإ خلقته من اتباع الشهوات أصلا وليس معنى التوبة تركها فقط بل تمام التوبة بتدارك ما مضى وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمه إلى وجه المرآة الصقيلة فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار رينا كما يصير بخار النفس في وجهه المرآة عند تراكمه خبثا كما قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فإذا تراكم الرين صار طبعا فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرأة إذا تراكم وطال زمانه غاص فى جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفى في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الأريان التى انطبعت في القلب كما لا يكفى في ظهور الصور في المرآة قطع الانفاس والبخارت المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصى والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحى ظلمة المعصية بنور الطاعة وإليه الإشارة بقوله عليه السلام أتبع السيئة الحسنة تمحها حديث اتبع السيئة الحسنة تمحها أخرجه الترمذي من حديث ابي ذر بزيادة في أوله وآخره وقال حسن صحيح وقد تقدم في رياضة النفس فإذن لا يستغنى العبد في حال من أحواله عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات هذا في قلب حصل أولا صفاؤه وجلاؤه