بسم الله الرحمن الرحيم
ثم أظلم بأسباب عارضة فأما التصقيل الأول ففيه يطول الصقل إذ ليس شغل الصقل في إزالة الصدإ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة فهذه أشغال طويلة لا تنقطع أصلا وكل ذلك يرجع إلى التوبة فأما قولك إن هذا لا يسمى واجبا بل هو فضل وطلب كمال فاعلم أن الواجب له معنيان أحدهما ما يدخل في فتوى الشرع ويشترك فيه كافة الخلق وهو القدر الذي لو اشتغل به كافة الخلق لم يخرب العالم فلو كلف الناس كلهم أن يتقوا الله حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية ثم يؤدى ذلك إلى بطلان التقوى بالكلية فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى بل شغل الحياكة والحراثة والخبز يستغرق جميع العمر من كل واحد فيما يحتاج إليه فجميع هذه الدرجات ليست بواجبة بهذا الاعتبار والواجب الثاني هو الذي لا بد منه للوصول به إلى القرب المطلوب من رب العالمين والمقام المحمود بين الصديقين والتوبة عن جميع ما ذكرناه واجبه في الوصول إليه كما يقال الطهارة واجبة في الصلاة للتطوع أى لمن يريدها فإنه لا يتوصل إليه إلا بها فأما من رضى بالنقصان والحرمان عن فضل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبه عليه لأجلها كما يقال العين والأذن واليد والرجل شرط في وجود الإنسان يعنى أنه شرط لمن يريد أن يكون إنسانا كاملا ينتفع بإنسانيته ويتوصل بها إلى درجات العلا في الدنيا فأما من قنع بأصل الحياة ورضى أن يكون كلحم على وضم وكخرقة مطروحة فليس يشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل فأصل الواجبات الداخلة في فتوى العامة لا يوصل إلا إلى أصل النجاة وأصل النجاة كأصل الحياة وما وراء أصل النجاة من السعادات التى بها تنتهى الحياة يجرى مجرى الاعضاء والآلات التى بها تتهيأ الحياة وفيه سعى الأنبياء والأولياء والعلماء والأمثل فالأمثل وعليه كان حرصهم وحواليه كان تطوافهم ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية حتى انتهى عيسى عليه السلام إلى أن توسد حجرا في منامه فجاء إليه الشيطان وقال أما كنت تركت الدنيا للآخرة فقال نعم وما الذى حدث فقال توسدك لهذا الحجر تنعم في الدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض فرمى عيسى عليه السلام بالحجر ووضع رأسه على الأرض وكان رميه للحجر توبة عن ذلك التنعم أفترى أن عيسى عليه السلام لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجبا في فتاوى العامة أفترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لما شغله الثوب الذي كان عليه علم فى صلاته حتى نزعه حديث نزعه صلى الله عليه وسلم الثوب الذي كان عليه في الصلاة تقدم في الصلاة أيضا وشغله شراك نعله الذي جدده حتى أعاد الشراك الخلق حديث نزعه الشراك الجديد وإعادة الشراك الخلق تقدم في الصلاة أيضا لم يعلم أن ذلك ليس واجبا في شرعة الذى شرعه لكافة عباده فإذا علم ذلك فلم تاب عنه بتركه وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثرا في قلبه أثرا يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي قد وعد به أفترى أن الصديق رضى الله عنه بعد أن شرب اللبن وعلم أنه على غير وجه أدخل أصبعه في حلقه ليخرجه حتى كاد يخرج معه روحه ما علم من الفقه هذا القدر وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم به ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه فلم تاب عن شرابه بالتدارك على حسب إمكانه بتخليه المعدة عنه وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر وأن خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله وبطريق الله وبمكر الله وبمكامن الغرور بالله وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا وإياك ثم إياك ألف ألف مرة أن يغرك بالله الغرور فهذه أسرار من استنشق مبادىء روائحها علم أن لزوم التوبة النصوح ملازم للعبد السالك في طريق الله تعالى في كل نفس من أنفاسه ولو عمر عمر نوح وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة ولقد صدق أبو سليمان الدارانى حيث قال لو لم يبك العاقل فيما بقى من عمره إلا على تفويت ما مضى منه فى غير الطاعة لكان خليقا أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله وإنما قال هذا لأن العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منها أشد وكل ساعة من العمر بل كل نفس جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها فإنها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد وتنقذك من شقاوة الأبد وأى جواهر أنفس من هذا فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا وإن صرفتها إلى معصية فقد هلكت هلاكا فاحشا فإن كنت لا تبكى على هذه المعصية فذلك لجهلك ومصيبتك بجهلك أعظم من كل مصيبة لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة فإن نوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فعند ذلك ينكشف لكل مفلس إفلاسه ولكل مصاب مصيبته وقد رفع الناس عن التدارك قال بعض العارفين إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقى من عمرك ساعة وإنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلا وهو أول ما يظهر من معانى قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) وإليه الإشارة بقوله تعالى: (من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لو لا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) فقيل الأجل القريب الذي يطلبه معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد يا ملك الموت أخرنى يوما أعتذر فيه إلى ربى وأتوب وأتزود صالحا لنفسى فيقول فنيت الأيام فلا يوم فيقول فأخرنى ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال فإذا زهقت نفسه فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة ولمثل هذا يقال (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن) وقوله (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) ومعناه عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (أتبع السيئة الحسنة تمحها) ولذلك قال لقمان لابنه يا بنى لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتى بغته ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصى حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو الثاني أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ولذلك ورد في الخبر أن أكثر صياح أهل النار من التسويف حديث إن أكثر صياح أهل النار من التسويف <لم أجد له أصلا> فما هلك من هلك إلا بالتسويف فيكون تسويده القلب نقدا وجلاؤه بالطاعة نسيئة إلى أن يختطفه الموت فيأتى الله بقلب غير سليم ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم فالقلب أمانة الله تعالى عند عبده والعمر أمانة الله عنده وكذا سائر أسباب الطاعة فمن خان في الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره مخطر قال بعض العارفين إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الإلهام أحدهما إذا خرج من بطن أمه يقول له عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهرا نظيفا واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر إلى كيف تلقانى والثانى عند خروج روحه يقول عبدى ماذا صنعت في أمانتى عندك هل حفظتها حتى تلقانى على العهد فألقاك على الوفاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب وإليه الإشارة بقوله تعالى (أوفوا بعهدى أوف بعهدكم) وبقوله تعالى (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون).